الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (12- 26): {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)}.التفسير:قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}.أصحاب الرس: قيل إنهم أهل قرية باليمامة، وقد كثرت الأقوال فيهم، زمانا ومكانا، كما أن القرآن لم يذكر اسم رسولهم وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة: الشجر الكثير الكثيف.وقوم تبع: هم أهل سبأ، من اليمن، وقد ذكرهم القرآن، وذكر كفرهم بنعم اللّه، وقد أرسل اللّه عليهم سيل العرم، فأتى على كل عامر بين أيديهم.والضمير في {قبلهم} يعود إلى مشركى مكة.. وهم المخاطبون بالآيات السابقة.وفى هذه الآيات تعرض عليهم صورة من حياة الماضين الذين كانوا على ضلال كهؤلاء الضالين.. وقد عرضت عليهم من قبل آيات اللّه، تحمل إليهم دلائل قدرته، وما أفاض عليهم، وعلى العباد من نعمه ومننه، فإن هم لم ينظروا في هذه الآيات، ويهتدوا إلى اللّه، ويؤمنوا به، ويشكروا له، أخذهم اللّه بما أخذ به الضالين المكذبين قبلهم.. فهم ليسوا أول من كذب بآيات اللّه، وبهت رسل اللّه، وهم لن يخرجوا عن سنة اللّه التي خلت في أخذ الظالمين بظلمهم، وإنزال البلاء بهم.{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ}.فهؤلاء بعض المكذبين في القرون الماضية، والأمم الغابرة، وقد علم المشركون أخبارهم، وما كان من أخذ اللّه لهم، ووقعاته فيهم.. ولهذا خصهم اللّه بالذكر.ويلاحظ هنا أن فرعون ذكر وحده، دون قومه، وعدّ وحده مجتمعا قائما بذاته، إذ كان سلطانه ممكنا في قومه، وكان قومه جميعا في قبضة يده، فكفر قومه تبع لكفره، كما يقول سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} [54: الزخرف].وقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي أن هؤلاء الأقوام جميعا كذبوا رسل اللّه السابقين، كما كذب المشركون رسول اللّه محمدا.وقوله تعالى: {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي وجب عليهم وعيد اللّه ولزمهم.. ووعيد اللّه عذابه الذي توعد به المكذبين والضالين.قوله تعالى: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.عادت الآيات لتكشف عن الآفة التي أفسدت على المشركين أمرهم، وباعدت بينهم وبين الإيمان باللّه، والتصديق برسول اللّه.. وتلك الآفة هي استبعادهم للحياة بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. وكان قولهم في هذا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [37: المؤمنون].فقضية البعث والقيامة، هي المدخل الذي دخل منه على القوم كل كفر وضلال.إنهم مستعدون لأن يؤمنوا باللّه، وأن يفردوه وحده بالألوهية.. ولكن الأمر الذي لا يقبلونه، هو الإيمان باليوم الآخر، فذلك ما لا يتصورونه، ولا يسمعون لقول يقال لهم فيه.والإيمان كلّ لا يتجزأ، فمن آمن باللّه، وكفر بكتبه، ورسله واليوم الآخر، فهو على غير سبيل المؤمنين، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].فقوله تعالى: {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} هو مواجهة للمشركين بما ينكرونه من أمر البعث، وما يقع في تصورهم من استبعاد له.فهذا الاستفهام ينكر على المشركين ضلال تصورهم لقدرة اللّه، وسوء إدراكهم لآثار تلك القدرة.. فهذا الوجود القائم، بعوالمه المختلفة في السموات والأرض- ألم يكن من صنعة اللّه؟ فهل عجز اللّه- سبحانه- عن أن يبدع هذه المبدعات؟ وهل أعياه أمرها؟ فكيف يعجز سبحانه عن إعادة ما انتثر من عقدها؟ وكيف يعيا- سبحانه- عن أن يبعث الحياة فيما همد من أحيائها؟ذلك ما لا يقبله عقل نظر في خلق الوجود كله ابتداء، ثم تطلع إلى طيه ونشره ثانيا!.وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.للبس: الاختلاط الذي يقع من عدم وضوح الرؤية للأمر، وتبيّن وجه الحق فيه.واللّبس الذي لبس عقول المشركين واستولى عليها، هو فيما يتعلق بالبعث، وإعادة الحياة إليهم بعد الموت.وهذا مما يشير إليه قوله تعالى في آية سابقة من هذه السورة، وهى قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.فى هذه الآية عرض آخر لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين.. وفى إعادة هذا العرض لقدرة اللّه، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة، ليراجعوا عقولهم مرة أخرى، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه.فاللّه سبحانه، هو الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض، فجعل منه هذا الكائن العاقل، السميع، البصير، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر، وما يضطرب فيها من خلجات.وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان- كل إنسان- من حبل الوريد.وحبل الوريد: هو عرق في صفحة العنق.. وسمّى العرق حبلا، لأنه يشبه الحبل في امتداده واستدارته.. وسمى وريدا، لأنه يستورد الدم النقي من القلب، ويصبّه في الأوعية الدموية التي يتغذى منها الجسم.قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ}.أي أن اللّه سبحانه مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله، ظاهرا وباطنا- فإنه سبحانه قد وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، فيكتبانه في كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة.و{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان من جنود اللّه، يسجلان عليه كل ما يقول، أو يفعل.. كما يقول سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ}.فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} هو بيان شارح لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله.. فهما واقفان للإنسان بالمرصاد.. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول {رقيب} أي مراقب، يسمع ما يقال، ويسجله، وهو {عتيد} أي حاضر دائما لا يغيب أبدا.. وليس رقيب وعتيد، اسمين للملكين القائمين على الإنسان، الموكلان به، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما، فكل منهما رقيب يقظ، حاضر أبدا.قوله تعالى: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.سكرة الموت: ما يغشى الإنسان ساعة الاحتضار، من غيبوبة أشبه بغيبوبة من يقع تحت خمار الخمر، فتنطفئ لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة، ويبدو وكأنه جثة هامدة، بلا شعور، ولا حركة، ولا وعى!.وقوله تعالى {بِالْحَقِّ} متعلق بالفعل {جاء} أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق، الذي غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر، حيث يرى عند الاحتضار، ما لم يكن يراه من قبل، وحيث يبدو له في تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة، التي هو آخذ طريقه إليها.وقوله تعالى: {ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} الإشارة إلى {الحق} وهو الموت، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء.. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر باليوم الآخر، منكرا له، حائدا عن الداعي إليه، المنذر به.وقرئ: {وجاء سكرة الحق بالموت} ويكون المعنى على هذا، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد عنه هذا الإنسان، والذي كان في حياته غير مقدر أنه سيموت.. {يحسب أن ماله أخلده}.فهو لهذا غافل عن الموت، كما يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}.هو عرض للأحداث التي تجيء بعد الموت.. فليس هذا الموت هو آخر المطاف، وإنما وراءه بعث، وحساب، وجزاء.والنفخ في الصور، هو كناية عن أمر اللّه، ودعوته إلى الموتى بالخروج من قبورهم، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [25: الروم].والصور: أداة ينفخ فيها، عند كل أمر عظيم، يجتمع له الناس، لحرب أو نحوها.. وكان يتخذ عادة من قرن حيوان من ذوات القرون الكبيرة كالوعول ونحوها.وقوله تعالى: {ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي ذلك النفخ إيذان بحلول يوم الوعيد، وهو يوم القيامة، الذي توعّد اللّه سبحانه وتعالى فيه أهل الشرك والضلال، بالعذاب الأليم في نار جهنم.قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي في هذا اليوم- يوم الوعيد- تجيء كل نفس ومعها {سائِقٌ} من ورائها يسوقها إلى المحشر، وموقف الحساب، {وَشَهِيدٌ} وهو الذي يشهد على الإنسان بما كان منه في الدنيا، من إيمان باللّه وباليوم الآخر، أو كفر باللّه، وبالبعث والحساب والجزاء.. فهو يحضر الحساب، ويشهد على الإنسان بما عمل.ومع كل إنسان أكثر من شاهد.. فهناك الرسول الذي يشهد على قومه، كما يقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء]، وكما يقول جل شأنه: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ} [75: القصص].. وهناك الجوارح التي تشهد على الإنسان، كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [24: النور].. وهناك الملكان الموكّلان بالإنسان، واللذان سجلا عليه كل أعماله..وقد أفرد هؤلاء الشهداء، فكانوا {شهيدا} واحدا، لأنهم يشهدون شهادة واحدة، لا اختلاف فيها، لأنها شهادة الحق الذي لا تشوبه شائبة من كذب، أو افتراء.. فكانوا بهذا أشبه بشاهد واحد، وكأنهم صوت يتردد.. له أكثر من صدى.قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.هو جواب عن تساؤلات كثيرة يتساءلها هذا الإنسان الذي كان لا يؤمن باللّه، ولا باليوم الآخر.. وذلك أنه حين ينفخ في الصور، ويخرج من قبره مع الخارجين من قبورهم- يدهش لهذا الأمر، وتعروه منه حال من التبلد والجمود والحيرة، وكأنه في حلم رهيب مزعج.. ويسأل نفسه ما هذا الذي يجرى حوله؟ وأين هو؟ وما خطبه؟ وماذا يراد به وبالناس؟.إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا.. ثم ينكشف له الأمر حالا بعد حال، وإذا منادى الحق يناديه هذا النداء الذي يكشف له عن المصير المشئوم الذي هو صائر إليه: {لقد كنت في غفلة من هذا} في حياتك الدنيا، لا تستمع إلى من يحدثك به، ويقدم لك الأدلة والبراهين عليه.أما الآن، فإنك سترى بعينيك حقيقة ما كنت تحسبه وهما وضلالا:{فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.لقد كشف عنك غطاء الغفلة الذي كان مضروبا على بصرك، فبصرك اليوم حديد، أي قوىّ، يرى كل ما بين يديك وما خلفك.. فالحديد من الحدّة، وهى القوة، وحدّ السيف: الجانب القاطع منه.وهذه الآية تشبه ما جاء في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [51، 52 يس].قوله تعالى: {وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ} القرين هنا، هو صاحب السوء، الذي يضلّ صاحبه، ويقوده إلى مواقع الإثم والضلال.. والمراد به هنا الشيطان، ومن يشبه الشيطان من الناس في الإغواء والإضلال.إن قرناء السوء يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويقع بينهم التلاحي والترامي بالتهم.. أما أهل السلامة والتّقى، فإن المودة قائمة بينهم في الدنيا، على التناصح، والتناصر، والتواصي بالحق والصبر، فإذا كان يوم الآخرة، تلاقوا على الرضا، وتساقوا كئوس الحمد والرضوان، كما يقول سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].فقرين السوء الذي زيّن الضلال لصاحبه، يلقاه يوم القيامة بما كان قد زيّنه له، مما يسوءه ويسوقه إلى جهنم.. إنه حين تحيط بالضلال خطيئنه، يتلفت حوله باحثا عن قرينه، فلا يجد من قرينه إلا هذه البضاعة الحاضرة!! قوله تعالى: {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} الضمير في {ألقيا} يعود إلى السائق والشهيد، في قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} فتلك هي الغاية التي يساق إليها هذا الضالّ المكذّب باللّه واليوم الآخر، وذلك هو الحكم الذي يقضى به الحكم العدل، بعد أن يؤدى الشاهد شهادته.. وليس هذا حكما مقضيّا به على واحد بعينه، وإنما هو حكم يؤخذ به كل كفار عنيد.. إنه حكم عام على أهل الكفر والضلال، فكل نفس قد جاءت ومعها سائق وشهيد.. أما النفس المؤمنة الصالحة، فتزفّ إلى الجنة، في حفاوة وتكريم.. وأما النفس المجرمة الفاجرة فإنها تدفع دفعا، وتلقى إلقاء في جهنم، كما يلقى الحطب في النار.وقوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} هو من حيثيات هذا الحكم الذي حكم به على أهل الكفر والضلال.. فالكفر هو الذي أورد أهله هذا المورد الوبيل، والكفر هو الذي قاد صاحبه إلى العناد والشرود عن الحق، وهو الذي جعل بينه وبين الخير هذه العداوة المستحكمة، التي تجعله يكره وجه الخير، فيلقاه محاربا له في نفسه، وفى الناس.. والكفر هو الذي جعله حربا على الآمنين والمسالمين، يبادئهم بالعدوان بغير جريرة منهم إليه.ثم يقوم على هذه المآثم كلها، هذا الإثم الغليظ، وهو الشرك باللّه.وقوله تعالى: {فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ} تأكيد للحكم: {ألقيا في جهنم} الذي ووجه به الكافر قبل أن يستمع إلى حيثيات الحكم، ثم إذا استمع إلى تلك الحيثيات، جاء الحكم في صورة أشدّ هولا، وأسوأ عاقبة.. إنه ينزل من جهنم في أسوأ منازلها، وأشدّها عذابا.
|